28.6.14

البدايات حيث النهايات !


وكأنّ يأسا جمعيا قد أصاب الناس، أو كأنّ المكتوم الجمعي صار لا يُحتمل، وبكل الأحوال فالطاقات النفسية اختفت وراء مشاعر الحرقة والألم. ان عالم الناس المشاعري في هذه الأيام مشتعل، والنار الداخلية تحرق الانسان من جوفه وتستأصل عزيمته وتثنيه عن حلمه، ولربما تدفعه الى الانكار أو الابتعاد أو الهروب، لكن تلك النار متوقّدة ولهيبها حار ورائحتها تخنق النفس الطبيعي، وكأنه بركان يزأر ايذانا بانفجار قريب، أو كأنها جهنم داخلنا، فهل هذه نفحة من نفحات جهنم؟! انها نار شريرة، لا ندري من أين أتت، ولا أين موقعها داخلنا، وهي لا تبان في أجهزة التصوير الحديثة، ولكنها هناك، داخلنا، نحسّ بها، ونتحرّق من لسعاتها. دخانها يصل الى المخّ، فيبلبلنا بلبلة تامة، فلا نعود ندري من نحن، ولا من حيث أتينا ولا الى أين نحن ذاهبون! ونخال الأرض سماء والسماء أرضا، ونظن أننا نعيش حُلُما أو نحلم أننا نحلم، ونرى الطيّب ساذجا، ونرى الباطش شجاعا، ونرى القاتل بطلا، ونرى القائل بالحق منحرفا، ونرى المخالف منشقّا، ونرى المرأة جنسا!

ان هذه النار تُوحي بالنهايات، فكم سيصبر هذا الجسد على تلك النار؟! وكم سيحتمل دون أن تتمزّق أغشيته؟! ولننطلق من قانون حفظ الطاقة، لنقول أن الطاقة الحرارية والاشعاعية التي تتوّلد داخلنا تستقرض أجزاء من طاقات العزيمة والحبّ وتلك المشاعر التي وُلدنا لنعيشها! ومن ثم فنحن لا نعيشها في الغالب، وان عشناها فنحن نتنكّر أو نبتعد أو نهرب! ومما يزيد المشكلة تعقيدا أن هذه النهايات مكشوفة للجميع، وهي نهايات جمعية، بمعنى أن تأثيرها يطال الطفل كما يطال المراهق كما يطال البالغ كما يطال كبير السن، أي أنها يمكن أن تكون نهايات في بداية البدايات. هذه النهايات التي تصادفنا في البدايات توّلد فينا أسئلة وجودية، أسئلة حياتية عميقة، ولربما يُعبّر عنها أحيانا بصورة ساذجة ولكنها تبقى تدلُّ على تساؤلات عميقة، فالطفل الذي يسأل: الى أين ذهب أخي الصغير؟ لماذا لم أعدْ أراه؟ يقصد: لماذا يموت الأطفال؟ كيف سنصير كبارا مثلكم اذا استأصلتمونا أطفالا؟! هل خُلق أخي الذي يصغرني لكي يموت؟ والطفل الذي لا يجد ما يأكل، يسأل: أين الأكل يا أمي؟ وهو يقصد: لماذا انجبتمونا الى عالم الجوع؟ لماذا ضممتمونا الى عذابكم؟ أتريدون أن نتشاطره؟

وكل هذه الأسئلة تنمُّ عن سؤال جوهري واحد وهو: أين العدل في هذا العالم؟ الكبير يقتل الأطفال ويبقى عائشا هو ومن معه، والطفل يُقتل، أو يُسلب بيته أو طعامه، الغني يزداد غنىً والفقير يزداد فقرا. أين نقطة الوسط؟ لا وسط في الأرجاء، فالأطراف مريحة للأقلية المسيطرة ولبعض المتعاونين (مع الأقلية) من ضمن الأكثرية المُسيطُر عليها، والظلم يكون في الأطراف، أما العدل فهو وسطي، محافظ على وسطيته في المكان والمعنى. أين العدل في هذا العالم، عندما يُعاقب المجني عليه عقابا زائدا، كما أن الفقير يزداد فقرا. وعندما يُحرّر الجاني، كما أن الغني يزداد غنىً، ليساهم ذلك في المحافظة على الأطراف، وتقوية شأن الأطراف (الظالمة والمظلومة). ان هذا العرض لا يُذنّب المظلومين أو المقهورين، وانما يُذنّب الظالمين أو القاهرين، ولكنه من جهة أخرى لا ينفي جزءً من المسؤولية عن المظلومين. ورغم أن القاهر يحاول بكل الوسائل للمحافظة على الأطراف، ابتداءً من خلق وعي زائف وانتهاءً بكل أساليب القتل والتعذيب الوحشية، فإن الأكثرية المظلومة تستطيع مقاومة كل ذلك لما تتّحد صفوفها وتفيق من الوعي الزائف الذي تشرّبته. أما حين تبقى الأكثرية مُغفّلة أو مخدوعة أو متفرّقة، فإن هذا يصبّ في مصلحة الأقلية الظالمة، بل ويعمل لصالحها، لأنه يقوّي من شوكتها ويشجّعها على الاستمرار في بغيها.  

هذه النهايات هي نهايات مصطنعة، من بطش الأيادي، بمبادرة أهل الشر من البشر، أي بالإمكان منعها، ولذلك فهي مُستهجنة ضعفين وملعونة أضعاف المرات! فقتل الأطفال لا يتماشى مع طبيعة الكون، وهو خَرْق بشري لقوانين الطبيعة، وكذلك تيتيم الأطفال وترميل النساء وقتل الشيوخ الطاعنين في السن، وهدم البيوت الآمنة، وارعاب البشر، وقلع الشجر، وهدم المعالم، وهدم الحضارات، ونسف الأخضر واليابس، كل هذه خروقات بشرية لقوانين الطبيعة! وهي خروقات حتى لو بانت قريبة من قوانين الطبيعة - كأن يقول أحدهم هذا شيخ كبير، فقتله أو ابقائة حيّا حتى توافيه المنيّة لا يفرقان كثيرا -  لأنها تدخّل غير مشروع للإنسان في قوانين الطبيعة. ان للطبيعة انسيابها المولود، ووتيرتها الخاصة، وكل تدخّل في هذا الانسياب وفي تلك الوتيرة يعدّ خرقا. لكنّ هناك خرقا مشروعا وآخر غير مشروع، مع أنه في أغلب الأحيان يصعب وضع الحد الفاصل بينهما. لكن تبقى هناك خروقات غير مشروعة بشكل صارخ، كالأمثلة المضروبة أعلاه. لذا، فإن هذه النهايات تضرب العزم والعزيمة وتوقد النار الداخلية وتحرق الجوف كما تحرق الأخضر واليابس على أرض الواقع.

هذه النهايات تشلّ الآمال وتُثبّط العزائم اذا عجز الواحد عن فعل شيء لتغيير ذاك الواقع الأليم. ولذا فإذا أعدنا النظر الى هذه النار الداخلية، يمكن أن نرى لها تأثيرين بحسب القدرة على الفعل أو عدم القدرة. التأثير الأول يحدث عندما يشتعل الغضب وتثور المشاعر الانسانية على الظلم ويكون الانسان قادرا على الفعل، ليكون وقع هذا التأثير على الفرد سلبي كونه يتطلب منه طاقات نفسية وجسدية ليست بالبسيطة، أما وقعه على المجتمع - وهذا هو الأهم – فهو ايجابي لأنه يدفع الى تغيير الواقع البائس (مثال، محمد البوعزيزي). اذا فإيجابيات التأثير الأول تتغلّب على سلبياته. أما التأثير الثاني فيحدث عندما تثور المشاعر الانسانية ولا يقدر الفرد على الفعل، مما يمكن أن يُنتج نوعا من اليأس والقنوط وانعدام الأمل، وهذا هو الذي نتحدّث عنه من بداية المقالة. ان هذه المشاعر يمكن أن ترافق كثيرا من البدايات كما قلنا، ولك أن تتخيّل صعوبة المباشرة (البدء)، عندما تختبئ مثل هذه الأحاسيس في الباطن.

والبدايات يمكن أن تكون مرتبطة بالعمر، كأن يصطدم الطفل الصغير (الذي هو في بداية عمره) بقسوة الحياة منذ نعومة أظافره، مما يولّد بداخله مشاعرا حزينة، كئيبة، قلقة، خائفة، بدلا من أن يعيش طفولته الرقيقة الناعمة التي تتلاءم مع طبيعة نموّه. فانكشاف طفل لمثل هذه الويلات ولمثل هذه المشاعر الكئيبة هو أيضا خرق بشري لقوانين الطبيعة. كذلك فإن البدايات يمكن أن تكون مرتبطة بأعمال جديدة ينوي الفرد الشروع بها، كأن يفتتح مشروعا جديدا، أو أن يُبادر لتنظيم حفلة، أو أن يشرع في بناء بيت، أو بدء التعليم للقب جامعي وغير ذلك من الأمور الحياتية التي نعتبرها جزءً من حياتنا. لكن طعم هذه الأمور ما زال يتغيّر في ظل كل ما يحدث في العالم، وخصوصا في العالم العربي، من ظلم وانتهاك لحرمة الانسان والحيوان والنبات والجماد، حتى لم يعدْ يهنأ لفرد عيش حتى يذكر أن هناك مظلومين، فقراء ومحتاجين. لكن لماذا يسرف كثير من الناس، يعيشون العيش الرغيد، يرقصون، يخمرون ويطلبون ملذّات الحياة كلها، دون التفات الى هؤلاء المظلومين؟ الجواب يتلخّص في كلمات بسيطة وردت سابقا في هذا المقال: إنكار أو ابتعاد أو هروب، وكلها وسائل لتجاهل أو نسيان الواقع الصعب!

ان هذه النار ستشتعل في كل انسان يفهم معنى الانسانية، ولذلك لا مناص منها. كما أننا لا يجب أن نهرب منها، لأن ذلك يصير انكارا أو ابتعادا أو هروبا، وهذا الوضع لا يصبّ بطبيعة الحال في مصلحة الانسانية، لأنه في هذه الحالة، يمكن أن يسلم الفرد، أما الانسانية فتبقى أسيرة الظلم والاجحاف. أما اطفاء النار فهو حلّ يستحيل تطبيقه، إذ لا يمكن الوقوف أمام تلك المشاعر الجياشة، واذا تجرّأ أحد ووقف فسيصير يصارع ذاته، فمن جهة كله غاضب ورافض للظلم ومن جهة أخرى كله غاضب ورافض لتلك المشاعر الجيّاشة. كما أنه لا يجب أن ننسى أنه يمكن أن تكون هناك فوائد لهذه النار – كما أسلفنا سابقا – ولذا وجب ترويضها وتسخيرها في خدمة أهداف سامية. ان مثل هذه النار يمكن أن تتحوّل الى نور، اذا عقلنا فائدتها وأثرها الايجابي على المجتمع. مثل هذه النار يمكن أن تتحوّل الى محفّز على البدايات، اذا أدرك الانسان أنه خُلق في كبد، وأن بعد العسر سيأتي اليسر، وأنه من المشكلة يُولد الحلّ، وأن هذه المخاضات وتلك الصعوبات تهدف الى "خضخضة" الانسانية، لتعيد رؤيتها في واقعها المرير، فتنتج واقعا أفضل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق