28.6.14

أخلاقية الدين !


لو أمعنا النظر في وظيفة الدين، لفهمنا أنه جاء من أجلنا ولمصلحتنا، فالله غني عن عبادتنا وعنّا وحري بالخالق أن يكون كذلك، أما نحن فلا حول لنا ولا قوة إلا بالله! فمرض السرطان يهزّنا ويهزّ جميع أبناء العائلة، والسرطان أنواع، فمنه سرطان الدم، وسرطان الأمعاء، وسرطان الثدي ... وسرطان الدم أنواع: فهناك الـ ALL والـ AML والـ CML والـ CLL، وأمراض أخرى غير السرطان لا تُعدّ ولا تُحصى. وأخطار أخرى غير الأمراض تحدق بنا من تحتنا كالبراكين والزلازل والهزّات الأرضية، ومن فوقنا كالنيازك وانهيار الأبنية والجسور، وبين أيدينا كحوادث الطرق والإصابات المختلفة والحروب. وفي البحر هناك احتمال للغرق، للضياع وللموت، وفي الجو هناك احتمال لسقوط الطائرة أو لاصطدامها بعائق أو لانحرافها عن مسارها. وهناك كوارث طبيعية أخرى كالفيضانات والأعاصير والحرائق والجفاف والأوبئة، وما لا يخطر على البال من كوارث مُفاجئة. ان الإنسان بهذا المفهوم هو ضعيف وهو محتاج لدعم متواصل ومدد مستمر، وخير دعم وخير مدد يستمده الانسان سيكون من خالقه، لأنه هو أخبر باحتياجاته وهو أعلم بما يُصلح حاله وينجّيه من كل المخاطر الى برّ الأمان.

وليس الدين كما قال قسم من الفلاسفة أنه أداة لتخويف الشعوب، وبالتالي تسهل امكانية فرض القوانين والنظم عليهم. وليس خدعة أو مخدّرا كما قال ماركس: "الدين أفيون الشعوب". وانما جوهر الدين هو الرحمة! فالقوانين والسنن الإلهية تصبّ في مصلحة البشر، والإسلام لم يُحرّم شيئا الا لحكمة معينة عرفناها أم جهلناها. وبالتالي هي قوانين من الخالق الخبير بعباده، لتُساعدهم على النجاح في اختبار الحياة الدنيا. الحياة الدنيا هي اختبار، لكنها اختبار مع اجابات مُعطاة واضحة، وما علينا الا تعبئة هذه الإجابات في المكان الصحيح لنحصل على المكافأة التي تفوق عملنا وجهدنا بأضعاف لا يعلمها الا الله!

ولو تخيّلنا العالم بدون دين وبدون أخلاق وبدون فطرة حسنة، لكان أقرب الى الغاب. فكل شيء مسموح، وبالتالي القوي يأكل الضعيف، والبقاء للأقوى، لأن الفقير سيسرق ليعيش، والغني سيسرق ليغنى أكثر، ولن يأمن أحد على ماله وممتلكاته فالكل يسرق! ولاختار الناس أن يلبسوا ما يريدون وأن يخلعوا ثيابهم متى أرادوا! والمعاشرة ستنتشر في الشوارع، ولن تنحصر بين رجل بالغ وامرأة بالغة، وانما ستكون مُبعثرة، فيمكن أن تكون بين رجل بالغ وطفلة صغيرة، وبين امرأتين أو رجلين، أو بين أخ وأخته، أو بين أب وابنته، أو بين أم وابنتها، أو بين طفلين لم يبلغا سن البلوغ لأنهما يشاهدان الجنس في الشوارع فيفعلان ما يفعله الآخرون تقليدا! وعندها ستفوح روائح الجريمة، فالقوي سيقتل الضعيف، ولربما يأكل من لحمه بعد قتله، اذ لا ممنوع ولا حرام! وسيشرب الناس ما يريدون وسيسكرون الى الذروة وستخدّرهم المخدّرات! ولن يحفظ أحد ممتلكات غيره ولا الممتلكات العامة، لأن الأنانية هي الحاكمة!

لكننا لا نتوقّع أن يصل بنو الانسان الى تلك الهاويات، لأنه حتى بغياب الدين تبقى هناك الأخلاقيات التي يُمليها العقل، وتبقى هناك الفطرة التي زرعها الله في البشر. وحتى لو شُوّهت هذه الفطرة، فإنه يبقى لها آثارا في أحيان كثيرة. وفي أسوأ الأحوال فإنه من الممكن أن تصل جماعة من الناس الى تلك الهاويات وليس كل سكّان الأرض، لأن العقلاء موجودون في كل زمان ومكان. لذلك فإننا نرى علمانيين وملحدين يتحلّون بأخلاق عالية، ذلك أنهم حكّموا عقلهم في تحديد التصرّفات الأخلاقية من غيرها. لكن على الرغم من ذلك، فإن التسامي الأخلاقي لا يصل الى ذروته، الا مع اتباع الدين الحق، لأن العقل البشري يقف عاجزا عن الإحاطة بكل جوانب المسائل الأخلاقية المختلفة، اذ يبقى في القانون الدنيوي ثغرات وفجوات. أما القانون السماوي ففيه الكمال الأخلاقي، لأنه منصوص عليه من الخالق الخبير بعباده وليس من بشر يُخطئ ويُصيب. فالاعتماد المُطلق على العقل البشري وتأليهه، يودي في النهاية الى أخطاء والى استساغة الحرام وفقا للتعريف الديني. فعلى سبيل المثال، يمكن للعقل البشري أن يُبارك معاشرة الحبيب لحبيبته، لأن السعادة ستغمر قلبين ونار الحب ستشتعل في الحبيبين، وهل هناك أحسن من الحب في هذا العالم ؟! ان المحبة هي المطلب الأسمى والكراهية هي المرفوضة ولذلك سيُبرّر العقل لنا ممارسة الحب، بما في ذلك قُبلات الشوارع وممارسة الجنس ما قبل الرباط المُقدّس. هذا التبرير نابع من قصور العقل البشري في ادراك كل الجوانب المحيطة بالمسألة وعن حصر التفكير في المدى القريب. فلربما لم يخطر على بال العقلاء أن خلافا بسيطا يمكن أن يُفرّق بين الحبيبين، لأنه لا رباط مقدّس بينهما، والافتراق يسير نسبيا! ولربما لم يخطر على بال العقلاء أن الحبيبين لا يعيشان في فراغ، فأحقاد الأقارب تتربّص بهما في حال لم يُوافق على الارتباط من أصله!

ثم ان التربية الدينية الصحيحة تُتنج في بني الإنسان رادعا داخليا عن فعل الحرام. فلو سمح قانون الدولة بفعل حرام ولو كان فعل الحرام يسيرا أو على مقربة من الإنسان، لما اقترب منه المتديّن حقّ التديّن، لأن رادعه الداخلي سيمنعه. بخلاف القانون الذي يُنتج لنا رادعا خارجيا، ولو سمح القانون بالفعل لفعله ذاك الإنسان دون أدنى تردّد، ولربما بحث عن ثغرات في القانون ليحتال عليه وليفعل ما تتوق اليه نفسه. ولذلك رغم تغنّي الدول المُتقدّمة بالأخلاقيات، نرى أن هناك نسبة الجريمة من أعلى النسب في العالم، ذلك أن الرادع هو رادع خارجي، وان استطاع المُجرم بذكائه تدبير خطّة محسوبة للهرب من أيدي القانون لفعل فعلته فورا!

السرقة !

لا يختلف اثنان في عصرنا أن السرقة هي فعل شنيع، والسارق له عقابه في القانون، ولكن كثيرا ما يغيب عن بالنا دور الدين في تحريم السرقة! على الرغم من وضوح شناعة السرقة في عصر حقوق الإنسان، فإن العالم اليوم يعاني من هذه الفعلة، ولو لم يلتفت الى كل محاولات السرقة، فكثير من المسؤولين في الدول المختلفة يسرقون أموالا ويختلسون من خزينة الدولة على حساب الشعب، بمعنى آخر يسرقون من أفراد الشعب! والدول العُظمى تسرق ونحن لا ندري، فهي تفرض هيمنتها على العقول وعلى الكنوز وعلى النفط! وتُعلن الحرب حفاظا على حقوق الإنسان ومنعا للظُلم والاضطهاد، في حين تكون غايتها خسيسة ألا وهي استعمار الشعوب ونهب ثروات البلاد والعباد! ان أمريكا بدخولها العراق قد سرقت وأفحشت في السرقة، وكذلك في دخولها لأفغانستان، والاستعمار الذي كان وما يزال هو أيضا سرقة!

فميثاق حقوق الانسان اذاً لم يضمن لنا استقامة البشر، لأنه - كما قلتُ سابقا - القانون هو مجرّد رادع خارجي. كما أنه يمكن تبرير السرقة بالاستعانة بالعقل من خلال عدة طرق، فيمكن أن يقول الإنسان لنفسه: "الدولة تسرق مني ضرائب كثيرة، وبما أني صاحب حق، يمكنني اذا السرقة من أموال الدولة متى سنحت لي الفرصة" أو "الكل يسرق، واذا لم أسرق بنفسي، فسوف أفقد كل أملاكي" أو "أنا محتاج لمزيد من المال لكي أسعد أبنائي ببيت دافئ وسيارة جديدة، ولذلك أنا مضطر لتحصيل الأموال بطريقة ذكية"! فحتى لو اعتبر الانسان نفسه سيّد العقلاء، يمكن لتفكيره أن يأخذه الى تبرير السرقة والى التخفيف من شناعتها كما يمكن ملاحظة ذلك في التبرير الأخير أعلاه. فلم يُطلق الرجل على فعلته اسم سرقة، لكي لا يشعر بالذنب على أثر فعلته، وانما أطلق عليها اسم "تحصيل الأموال بطريقة ذكية"! أما في التربية الدينية، فإن السرقة تبقى سرقة ولو كانت من عدو! فهو مال حرام لأن الإنسان يأخذ ما ليس له، وهو بالتالي يسرق أتعاب الآخرين. وهذا بطبيعة الحال لا يتّسق مع روح الإسلام الذي يقول أن الأجر على قدر المشقة، ورغم أن القصد هنا هو الأجر الأخروي ولكن المنطق هو نفس المنطق، فأن يتعب آخر وتأتي أنت لتسلبه حصيلة أتعابه دونما تعب وجهد، فهذا مما لا يقبل به الدين!

ثم ان السرقة هي فوضى عارمة بحد ذاتها، لأنها تخترق الحدود، وتخترق حقوق الآخر. فكأنّ شرعنة السرقة تقول لنا أن لا اعتبار للملكية الخاصة وما هو معك اليوم يمكن أن يصبح مع الآخر في غضون ساعات، فالحدود مُخترقة، والأموال تنتقل من المسروق الى السارق بعشوائية غريبة. وبذلك ينعدم الإحساس بالأمن والأمان ويسود احساس بالعشوائية، فلا أمان على الأملاك، وكل ملك مُرشّح لأن يُسرق! وليس يسوى أن يعمل الانسان ويجتهد ويكدّ، لكي يُحصّل قوتَ عيشه، لأن السارق سيأتي ويسرق الأموال بسهولة دونما جهد وتعب! وعندها ستثبط العزائم، وسيقل الدافع للعمل، وبالطبع سيؤثّر ذلك سلبا على سوق العمل، لأن العمال غير مُتحمّسين للعمل، وان عملوا فإنهم سيعملون بجودة منخفضة، إذ أنهم يعلمون أن لا أمان وأنّ أموالهم ستسلب! كما أن الخوف من السرقة سيسيطر عليهم، وربما يُنتج عند أحدهم تخوّفات وأزمات نفسية، كالخوف من المستقبل والخوف من المطاردة.

ومن ثم سيكون الحل الأولّي هو تشديد الأمن على الممتلكات. عندها ينصب صاحب الأملاك كاميرات المراقبة في كل مكان، صافرات الإنذار، الحراس، الكلاب، وكل ذلك يُكلّف مبالغا هائلة! فكأنّه وان نجا من السرقة، فلن ينجو من تبعات السرقة، التي تُجبره على أن يتّخذ كل وسائل الحيطة والحذر. اضافة الى أن هذا الحل ليس يقدر عليه كل أحد، ومن ثم فإن قدر عليه الواحد، فإنه لا يُنتج احساسا صادقا بالأمان، لأن الحرّاس أيضا يمكن أن يتآمروا ضد مُشغّلهم، كما أن أجهزة المراقبة والإنذار يمكن أن تقف عاجزة أمام عملية سطو مدروسة وواسعة النطاق، مما يؤكّد لنا أن هذا الحل هو حل سطحي وخارجي وهو بعيد عن أن يكون حلا جوهريا وعميقا!

أما فيما يتعلّق بسرقة الرُّعاة لرعاياهم، فإن ذلك أعظم أثرا، لأن هؤلاء المسؤولين هم قُدوة الشعب وهم بطبيعة الحال شخصيات معروفة ولها وزنها في المجتمع. فإن هم سرقوا من أموال الشعوب، فما الذي سيمنع الموظّف البسيط من أن يُسوّغ لنفسه السرقة من أموال الدولة بحجّة أنه كما تُعامِل تُعامَل؟! ان الكبار يسرقون الملايين، فهل ان سرق الموظّف البسيط عشرة ألاف سيُعتبر هذا جُرما؟! أي ان القُدوة الفاسدة، تفسد الرّعية وتُصغّر جريمة المواطن في عينه، نظرة لفظاعة جرائم القادة! وهم بالتالي يعملون عكس ما أُمروا به، فبدلا من أن يكونوا المثال الحسن للشعب، عملا بحديث رسولنا الأكرم عليه الصلاة والسلام: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، فهم يخونون الأمانة ويخونون الوطن ويخونون الشعب ويخونون الدين، لتقديمهم مصلحتهم الشخصية على مصلحة الأمة والرعية! انها الأنانية والجشع والطمع! ويمكن للسلطة أن تُغرّ الانسان، الا أنها لا تقلب طبائع العباد بأي حال من الأحوال، ولذا وجب في كل بيئة، مؤمنة كانت أم كافرة، تشغيل أجهزة مراقبة على المسؤولين. والمسؤولون بدورهم يقومون بمراقبة الشعوب، مع التشديد على أن هذه الرقابة تُشغّل كرقابة ثانوية للرقابة الذاتية التي ينبغي أن يُطوّرها التربويون في نفس الإنسان، وهي متّصلة بطبيعة الحال بالدين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق