19.5.14

قوة المؤمن (الأسباب، التوكّل)


ان المتأمّل في هذا العالم يدرك أن هناك أمور مقدور عليها وأخرى مُعجِزة، هناك أمور يمكن السيطرة عليها وهناك أمور تفوق حدّ السيطرة وربما تهدّد أمن الانسان (من مثل، مرض فتّاك أو كارثة طبيعية). وهناك أمور يمكن ادراكها بالعقل وهناك أمور تعصى على الادراك، المجموعة الأولى يمكن تسميتها بالمدركات والثانية يمكن تسميتها بالغيبيات. لذا ولكي تتشبّع الطمأنينة في هذا العالم المركّب، عليك أن تحتويه بتركيبته (المدركات والغيبيات) في آن. اننا عبر هذا الاحتواء نعترف بمكانتنا وقيمتنا في هذا العالم ولا نتنكّر لما نعجز عنه. عبر هذا الاحتواء ننسجم مع طبيعة الحياة، ننسجم مع هذا الكون المركّب، ننسجم مع المعرفة وعدم المعرفة ونرى الصورة المركّبة الكاملة بدلا من أن نتنكّر لما لا نعرف ولما لا ندرك. إلا أنه علينا أن نحذر من أن نتكاسل ونتواكل، فنُقحم الغيبيات في كل ما نعجز عن ادراكه في الوقت الحالي، لئلا نُكلّف أنفسنا عناء البحث والتفكير والجدّ والعمل، ولنعيش بسلام مُزيّف مع هذا العالم وكأننا ملكنا الدنيا بمعرفتنا المحدودة.    

انه من الحري بنا أن نأخذ بالأسباب، نجتهد، نجدّ ونعمل كل ما بوسعنا عمله (أن نعمل كل ما بوسعنا عمله بصدق واخلاص، فلا ندّعي أننا اجتهدنا بما فيه الكفاية ونحن نعلم في داخلنا أن اجتهادنا غير كاف). وفي سياق العلم أيضا أن نبحث عن الأسباب بجدّ، فلا نستعجل الادعاء عند اكتشاف مرض جديد أنه مسّ شيطاني أو روح شريرة استوطنت الجسد، انما من الواجب التعقّل ومحاولة تفسير الظواهر وفق المنهج العلمي الحديث. ثم اذا عجزنا عن تفسير الظواهر وفق المنهج العلمي، فإننا نملئ الفراغ بالغيبيات، ولكن العلماء لا ينفكّون عن البحث وراء الأسباب. ان هذا الملئ (ملئ الفراغ بالغيبيات) يمكن أن يكون مؤقّتا أو أبديا، الا أنه بكل الأحوال يعطي احساسا بالطمأنينة والسكينة.

ما يُميّز الانسان المؤمن عن غيره أنه يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ومن ثم يتوكّل على الله وكأنها ليست بشيء! انه جد واجتهاد وعمل وفي نفس الوقت ايمان بالغيبيات وبالقضاء والقدر. ان الانسان المؤمن يعقل ويتوكّل، انه يأخذ بالأسباب ومن ثم يتوكّل على مُسبّب الأسباب، إذ لا يصحّ توكّله لو لم يأخذ بالأسباب. يفعل كل ما بوسعه لينجو من مرضه، ليخرج من المشكلة التي هو فيها، لينجح في امتحانه، ليصل الى هدفه، ومن ثم يتوكّل على خالقه ويؤمن أن ما أصابه ما كان ليخطئه وما أخطأه ما كان ليصيبه. انه دائم الرضى بما كُتب له، بقضاء الله وقدره، إذ أنه عمل ما بوسعه، وتوكّل على من بيده كل شيء وهو يُردّد قوله تعالى: "عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم"، ويتذكّر الحديث القائل: " عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ ". اذا هما قوّتان لا يملكهما الا مؤمن: الأولى هي قوة الأسباب والسعي والأخرى هي قوة التوكّل التي بموجبها يُذعن ويسلّم لقضاء الله وقدره. هما قوّتان متلازمتان، فحيثما رأى المؤمن امكانية للاجتهاد وللتغيير قام وفعل ولم يتكاسل، وحيثما عجز فوّض أمره لله (التوكّل حالة دائمة عند المؤمن ولكنها بارزة أكثر في حالة العجز). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق