15.6.14

يا قتلة الفن كفاكم !


في أحد الأيام التي لا تُنسى لوقع أثرها استوقفني خبر عادي لأوّل وهلة، ولكنّه شدّني لكونه مما حُبّب إليّ، فأخذت أجول في سطوره يُمنة ويسرة وأتفقّد الصور المرفقة وأطالع بعضا من تعليقات الجمهور على الحدث، إلى أن هالني وصدمني نقاش لاذع حول تحريم مثل هذا العمل الفني الذي لا يبث فُحشا أو رذيلة أو شرا. عندها أدركت ضرورة طرح مثل هذا الموضوع على الملأ، لبيان مدى خطورة الأمر في مثل هذا العصر الذي برز فيه الفن وعلا شأنه وازدهر.

إنّ ما نلاحظه في عالمنا الإسلامي هو إماتة الفن وتعطيله وكأنّه ليس من شأن المسلمين، مع أنّ الإسلام شامل وقد جاء رحمة للعالمين وليس ليشقّ على الناس، فالفن هو أدب راقي يحرّك المشاعر ويشدّ الانتباه ويقرّب المعاني ويزيدنا متعة وهو بمثابة فُسحة يمكنها أن تسخّر لعبادة الله. إذا فلماذا هذا الهجوم المسلّح على الفن وخاصة الغناء الملتزم؟! ولماذا نحرّم ما أحلّ الله بأبسط الجمل وأيسر الطرق دون تفكير إضافي؟! أهو الخوف الزائد أم رهبانية ابتدعها الناس أم هروب من النقاش والبحث؟!

إنّ الحلال بيّن والحرام بيّن ولذا فإنّنا نكاد نجمع على قذارة واستحقار أو على جمال وحلّ ورونق غالبية الأمور، ولكن تبقى الأمور المشتبهات والتي تحتاج إلى بحث علماء الأمة ونقاش موضوعي حضاري للوصول إلى جواب مقبول، ليتسنّى لكل مسلم أن يعرف يمناه من يسراه في عصر تفجّر المعلومات. لذا فإنّ ما يُقال له الفن الهابط في أيامنا هو ليس فنّا أصلا وربّما يكون سيطرة مثل هذا النوع من الفن على الإعلام هو سبب رئيسي من أسباب تراجع الإسلاميين وانسحابهم من الساحة الفنية الراقية في جوهرها، مع أنّ أعظم حضارة في الأندلس لم تخلُ يوما من جوانب الفن. وهنا تكمن المشكلة، فبهذا التراجع يتم فسح المجال للا فن  ويضمحل شأن المسلمين في هذا الباب ويقل تأثيرهم وبالتالي لا يصل صدى الإسلام الذي هو في الأصل دين العالمين إلى حيز الظهور والبروز على الشاشات.

من السهل أن أقول لك إنّ هذا الأمر حرام فإياك منه مع أنّه لا يوجد نص صريح يشهد بتحريمه، ولكن ربّما يكون هذا الجواب القاطع تنصّل من المسؤولية و"أقل وجع رأس" كما يقولون. إلا أنّ تحريم أمر كهذا هو جد خطير لأنّه عندها تُحرم أمة كاملة من أمر ربّما يكون في منزلة المشتبهات وبذلك يتم إلغاء هذا المجال أو ذاك من قاموس الأمة، والله أعلم بعواقب الأمور لأنّ العالم اليوم موجود بين يدي كل فرد من خلال الإعلام والشبكة العنكبوتية وكما هو معلوم فإنّ الجوع يولّد الشراهة.

أنا أظن أنّ كثيرا من القضايا المعاصرة تحتاج إلى دراسة أساسية من خلال مجلس إفتاء عالمي يشمل علماء مسلمين من جميع أطياف المعمورة، وعندما أقول علماء لا أقصد فقط علماء الشريعة وإنّما نحتاج في مثل هذه الجلسات والندوات والنقاشات إلى أصحاب التخصّصات المختلفة وخاصة علماء النفس وعلماء الإجتماع والذين من شأنهم أن يعرضوا إيجابات وسلبيات منع وتحريم أمر معين. الفتوى التي تصدر ولا يتم نشرها على الملأ هي موقوفة التنفيذ في أغلب الأحيان لأنها لا تصل إلى مسامع عامة الشعب ولذا كان من الضروري نشر الفتاوى الصادرة على الإعلام الواسع وليس هذا الأمر مستحيلا.

وإذا ما أردت أن أتركّز في عالم الفن، فالغناء على سبيل المثال يعجّ هذه الأيام بوابل من الأناشيد الدينية والإسلامية، ولكنّها في غالبيتها عالم رجولي بحت ولربّما تمّ إدخال بعض البنات اللواتي لم يبلغن الحُلُم. ولكن عندما يصل الحديث إلى شابة محجّبة حجابا كاملا وتعتبر مثالا حيا للفتاة المسلمة، فإنّ أصوات الرفض تتعالى والصراع يحتدم إذا ما غنّت بصوتها العذب أمام جمع من الرجال والنساء، ولو كانت أناشيدا تدعو إلى معالي القيم وإلى تعابير الوطنية والإسلام، والصحيح أنّ هذا الموضوع يحتاج إلى طرح موسّع ودراسة. ونأخذ مثالا الشابة الفلسطينية ميس شلش والتي أبهرت الناس بجمال صوتها وكسبت قلوب كثير من الناس وهنا يُطرح السؤال: هل من الأفضل جذب الناس إلى هذه الشخصية الإسلامية الصارخة والتأثير عليهم أم من الأولى تركهم لحفلات الغناء الساقطة والتي لا تساهم في رفع مستوى الإيمان بطبيعة الحال؟! هل يجب كبح المستقبل الغنائي لهذه الفتاة وإماتة موهبتها وحصرها في آذان أقربائها أم من الواجب دعم مسيرتها وتشجيعها لإكمال مسيرة العفة الفنية؟! وهل أخطأ الدكتور يوسف القرضاوي على علمه عندما سمح لها بالغناء وغنّت أمامه كما زعم الإعلام؟!

إنّ الله عزّ وجل عندما فرض الحجاب والجلباب فرضه لأنّه يعلم أنّ العورة الى حدودها تُثير غرائز الإنسان، أما ما عدا العورة فإنّه لا يحرّك الغريزة بالعادة. ولكن المشكلة هو أنّه عندما تضع نصب عينيك أنّ جزءا معينا أو حتى غرضا سيُثير غريزتك فإنّ الغريزة ستُثار بحكم تفكيرك وليس بحكم طبيعة الخلق. وكذلك موضوع الأدوات الموسيقية والتي ابتعد عنها المسلمون لاستوحاشها، وموضوع خطاب المرأة أمام الرجال إن كانت على قدر من العلم أو أرادت أن تعرض مشاركة في إلقاء شعر أو عرافة حفل أو إلقاء خطاب. كل هذه المواضيع تحتاج إلى وقفات ودراسات لأنّ هذه طاقات مكنونة فإما أن تُنمّى في المجالات المباحة وإمّا أن تنمّي نفسها في ما حرّم الله. وخلاصة القول علينا تمييز المباحات لنستطيع إغراق الناس بها فلا يجدون وقتا ورغبة في الحرام.
كُتب منذ زمن 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق