22.11.13

التربية المبكّرة


مما تم ملاحظته أن النفس الإنسانية تعير إهتماما كبيرا لبدايات الأمور وذلك لأن كل بداية تشكل مقدّمة للتعريف بالشيء المراد فهمه، وهي أي البدايات بمثابة الأسس والدعائم التي تُبنى عليها الأفكار والمعلومات اللاحقة، وبكلمات أخرى كل بداية تشكّل البنية التحتية للفهم . كما أن الإنسان في بداية كل أمر يبذل طاقة تفكيرية عالية لغرض التركيز والتحليل وسبر غور كل مبهم، ونضرب مثالا حتى نسهل الفهم في باب ما يسمى بالإنطباع الأول . عندما تقابل شخصا لأول مرة فهو بالنسبة لك مبهم، بمعنى غير معروف من هو وما هو طبعه وطبيعة شخصيته، وكلما زادت اللقاءات وتتابعت زادت المعرفة بالشخص حتى نصل إلى درجة نكوّن فيها بطاقة تعريف تفصيلية للشخص بحسب رؤيتنا للأمور ومن وجهة نظرنا نحن . عندها سنفسر كل تصرف يصدر عن نفس الشخص بحسب تلك البطاقة التعريفية التي في عقولنا وسنتوقع منه أمورا وسنستبعد عنه أمورا أخرى . لكن يجب الإنتباه إلى أن إمكانية التغيير واردة والأمور ليست حاسمة ومصيرية ولا رجعة فيها، فالعالم ملوّن وليس أسودا أبيض، وإنما ادعاؤنا أنّ للبدايات والمقدّمات تأثير كبير على سير الأمور وإمكانية التغيير واردة رغم صعوباتها، فعندما يصدمنا شخص معين بتصرف خارج عن دائرة تصورنا له فأمامنا إمكانيتان، إما أن ننسب تصرفه إلى دافع خارجي أي الى الظروف المحيطة به وما شابه، أو إلى دافع داخلي ينبع من إرادة الشخص نفسه وهو ما يُحدث تغييرا في تصوّرنا القديم للشخص .

من هنا نصل إلى لبّ الموضوع ونقول أن التربية المبكرة هي حجر الزاوية والأساسات التي تُصقل بناءً عليها الشخصية، لذلك كان جيل الطفولة المبكرة غاية في الأهمية، وقد شدّد علماء النفس كثيرا على هذه الفترة من الحياة لأن البناء فيها والهدم سهلان، بمعنى أن الشخصية تكون مرنة نسبيا. لذا كان من الضروري التشديد على التربية المبكرة الحسنة ولا بد للوالدين أن يعيا خطورة وأهمية جيل الطفولة المبكرة، فيحسنان التربية ويغرسان في أبنائهما القيم المحمودة ويصنعان النموذج المثالي من الإنسان بنظرهما . وقد قيل سابقا : العلم في الصغر كالنقش في الحجر وما أسهل النقش في الحجر وما أصمده وما أمتنه، وقد قيل أيضا أنه من شبّ أي نشئ على شيء شاب عليه وفي هذا دليل على قوة تأثير التربية المبكرة على الإنسان . لهذا فإننا نلاحظ صعوبة التنازل عما صار جزءً من هويتنا أو حتى استبداله، لأن الإنسان يرى أن هذا هو الوضع الطبيعي ويؤمن أن مفهوم الحياة كما يراه هو الصواب، فقد توارث هذا المفهوم من أقرب وأحب الناس إليه وممن يثق بهم وهما الوالدان أو الأقارب أو البيئة المحيطة أو المجتمع الذي وُلد فيه . فمن وُلد مسلما أو نصرانيا أو يهوديا فإنه يبقى ملاصقا لدينه ومروّجا له ومدافعا عنه لأنه يرى أن هذا هو الصواب بعينه . هكذا هم غالبية بني البشر وليس جميعهم، وقليل من يبحثون عن الحقيقة فيشككون في إنتمائهم الديني أو القومي وما شابه، وربما يغيرون هذا الإنتماء عن قناعة ورضا وبعد بحث طويل . وفي هذا الشأن يقول الرسول محمد عليه الصلاة والسلام : "كل مولود يُولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".

إن التربية المبكرة هي خليط من وراثة وبيئة، حيث أن الإبن يكتسب جينات من كلا الوالدين، ولهذا من المنطقي أن يشترك الولد مع والديه في صفات خَلقية وخُلُقية موروثة، وليس هذا فحسب بل إن للبيئة المحيطة بالطفل أثر كبير أيضا عليه، وتشمل الأشخاص والأغراض وكل ما يلتقط الطفل بحواسه الخمس. لكن للوالدين مكانة خاصة في نظر الطفل وهما بمثابة المثل الأعلى بالنسبة له، لأنهما أقرب الناس إليه وهما المربيّان الأساسيان والمزوّدان بالحاجات الضرورية لبقاء الطفل، وهما أول من يتّصل بهما الطفل اتصالا عاطفيا، وحتى أنهما يشكّلان العالم الخارجي كله بالنسبة للطفل في بداية حياته. لهذا كان أثرهما ملحوظا في شخصية الطفل وتقليد الطفل لهما أمر شائع جدا، فالطفل بمثابة مرآة للبيئة الموجودة في البيت، ولا يظن أحد أن الأطفال غير مدركين لما حولهم كما كان يُعتقد سابقا أو أنهم جماد متحرك. هذا الإدعاء يتناسب مع قول الشاعر: وينشئ ناشئ الفتيان فينا كما كان عوّده أبوه، والأمثلة على ذلك كُثُر. أضف الى ذلك، أنه في المجتمعات المحافظة يكون الأبناء أشبه بالآباء وهم يجسّدون على الأغلب صورة مصغّرة للآباء.

من هنا وبعد بيان أهمية التربية المبكّرة وضرورة الإنتباه إليها نطلق نداءً للأهالي: أن ربّوا أبنائكم منذ الصغر كما تريدوهم في الكبر ولا تقولوا يوجد وقت وما زالوا صغارا جاهلين، فهذا الكلام من قلة العقل والغفلة عن واقع الحياة وفيه تنكّر للحقيقة وركون إلى الوهم المريح. صحيح أن الأطفال لم يصلوا بعد إلى كامل رُشدهم، ولكنّهم يملكون قدرات إستيعابية تُمكّنهم من صقل شخصيتهم في السنوات الأولى من حياتهم، فمن غرس في طفله شيئا كبُر عليه، وهذا يعني أن من عوّد ابنته الصغيرة على اللباس الكاشف لنصف الجسم وإن كانت صغيرة فهي ليست دمية متحرّكة ولم يُبيّن لها أن الحجاب واللباس الشرعي فرض لا غنى عنه وأن العفة واجبة والحياء مطلوب، فكيف لها أن تُغطّي النصف المكشوف في سن الحادي عشر تقريبا أو حتى قبل ذلك، إن كانت قد رُبّيت على حُب اللباس العصري كما يقولون. يا أخي، يا أختي اللباس الشرعي فرض عين على كل مسلم ومسلمة ابتداءً من سن البلوغ، أي أن الطفلة والبنت التي لم تصل إلى هذا السن غير مجبرة بهذا اللباس، ولكن كون التربية المبكّرة تحمل أثرا كبيرا على النفس الإنسانية، فإن ذلك يستدعي لباسا منضبطا وتوجيها مستمرا لما هو واجب في سن البلوغ. أنا لا أفهم ما دهى مجتمعنا الإسلامي عندما يُلبسون البنت الصغيرة لباسا كاشفا أكثر ومثيرا أكثر مما يلبسون الذكور وكأنّ الموازين قُلبت وتقلّبت. 
* كُتبت في نهاية السنة الأولى من بكالوريوس علم النفس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق