22.2.14

أمين يبحث عن الهجرة


في ذاك اليوم، استيقظ أمين متأخّرا من نومه، كعادته في الأيام التي لا يذهب فيها الى المدرسة، فالصباح المدرسي بالنسبة له هو كابوس بحد ذاته، علاوة على الساعة الرنانة التي تصم آذانه قبل صياح الديك وهو يسمع نغماتها منطلقة من غرفة والديه. انه يكره تلك الساعة ويودّ أن يحطّمها ولكنه يدرك أن أمّه ستغضب كثيرا ان فعل، وبالتأكيد ستشتري واحدة غيرها أشد ازعاجا وأنكر صوتا!

انه يعتبر مثل هذا اليوم فرصة لا تُعوّض وهدية يحسن استغلالها، خصوصا أنه يوم عطلة خاص، فاليوم يوم اثنين وهو أحد الأيام المدرسية ولكنه ليس كذلك اليوم، وهذا يعني أن أمه لن تبقيه حبيس المنزل، ولن يضطّر الى تعبئة الطاولة البنية بالكتب والدفاتر، فهو يوم خالٍ من الوظائف البيتية، وعندما يكبر أمين سيدرك أن ما يحسه في يوم العطلة هو شعور بمزيد من الحرية.  

وبدلا من أن يحمل الحقيبة الثقيلة على ظهره، يحمل كأس "الشوكو" الساخن في يده ويتكأ كالطفل المدلّل على الكنبة، وبدلا من أن يمشي الى المدرسة بخطوات متثاقلة، يقفز ويركض في البيت وحوله ويحمل الكرة في أسوأ الأحوال، وبدلا من أن يأخذ الكتاب بين يديه، يحمل هاتفه النقال الذي لا تنقصه أحدث الألعاب المتطوّرة، لينتقل من لعبة الى أخرى.

أما أمه فلا تكفّ عن شغل البيت ولو لساعة واحدة وهي تستيقظ في نفس الوقت كل يوم. كثيرا ما تساءل أمين: "ما الذي يدفع أمي الى الاستيقاظ باكرا كل يوم، رغم أنها لا تذهب الى المدرسة؟ حتى في الأيام التي لا يعمل فيها أبي، هي تستيقظ في نفس الوقت! غريبة أنت يا أمي! لو أني مكانك لنمت الدهر كله!".

أم أمين تحبّ أن تفاجئ أبنائها أحيانا بأسئلة تدفعهم الى التفكير والنظر، ففي ذلك الصباح ما ان خرج أمين من غرفته حتى باغتته أمه بالتحية الصباحية المعتادة وعندها فهم أمين أن السؤال اليومي قادم لا محالة.

أم أمين: "صباح الخير يا أمين، صارت الدنيا الظهر وانت بعدك نايم يا بني، متى ستراجع دروسك؟".

أمين: "صباح النور يا أمي، اليوم يوم عطلة وما في عنا وظايف".

أم أمين: "هل تعرف لماذا اليوم هو يوم عطلة؟".

أمين: "لا أعرف! هل تعرفين أنتِ؟".

أم أمين: "نعم أعرف ولكني أنا التي سألت وأنتظر منك الإجابة".

أمين: "لم يخبرونا في المدرسة، هم قالوا لنا أنه يوم الاثنين والثلاثاء ما تيجو على المدرسة بدون شرح أو تفسير، وبعدين لو كنت بعرف كنت خبرتك ياما، هو في بينا أسرار؟!".

أم أمين: "أريدك أن تكتشف لوحدك ما هو سبب العطلة، وأن تخبرني عندما تعرف"، وتابعت أم أمين تنظيف أرضية المنزل وهي تحدّث نفسها: "ما هذه المدارس التي لا تفطن الى مثل هذه الذكرى العطرة، همهم الوحيد أن يجمعوا أكبر عدد من أيام العطل وينسون رسالة العلم والتربية وراء ظهورهم، كيف لذكرى هجرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم أن تُنسى، كيف لهذا الجيل أن يُغفّل عن تاريخه وعن دينه وعن سيرة نبيه؟! اللهم أصلح حالنا يا رب!".

خرج أمين من المنزل وهو مشغول البال، الأفكار بدأت تتسابق في عقله دونما انتظام، والفضول الذي ثار داخله لم يكد يفارقه في تلك الأثناء، فهو في العادة لا يخيب ظن أمه، ويعتبر كل سؤال منها بمثابة تحدّي ينبغي عليه اجتيازه بنجاح، وان لم ينجح بالتحدي فكما تقول له أمه دائما: "يكفيك شرف التجربة يا بني".

أخذ ينظر حوله لربما يجد مرشدا لحيرته أو علامة تهديه الى الجواب وصار يفكّر: "كم هو مزعج أن تكون جاهلا! كم هو مزعج أن لا تعرف!"، تأمّل السماء الزرقاء فوقه ووجد فيها الغيوم البيضاء تسبح مسرعة كعادتها وكأنها تريد الوصول الى هدفها في أسرع وقت، ونظر الى كومة التراب في حديقة منزلهم والتي يستغلها من أجل بناء بيوت من الطين أو بناء أجسام غريبة، وجاءته نحلة فتابعها بنظراته الى أن وصلت الى شجرة الليمون التي أزهرت قبل أيام، وشجرة الزيتون وشجرة التين اللتان لا تحلو حديقة المنزل دونهما على حد قول أبيه، وأثناء جولته التفكيرية تذكّر أن المدارس لا تُعطّل في الغالب الا اذا كانت هناك ذكرى غالية أو عيد بهيج.

لكن لا يمكن أن يكون هذا اليوم يوم عيد، لأن مظاهر الفرح غير موجودة، وعيد الأضحى قد حلّ قبل أيام معدودة، رغم أن هلال رمضان ما زال معلّقا على شرفة الجيران! أغلب الظن أنه سيظل معلّقا الى رمضان القادم! لا بدّ أنها ذكرى من تاريخنا الغابر! أي كتاب تاريخ سأفتح الآن لأبحث فيه؟ لا، فكرة البحث في كتب التاريخ هي فكرة عسيرة، فكل كتاب يعد مئات الصفحات وبه آلاف الكلمات التي لا أفهمها!

أمين: "ها هو صديقي كمال، يا لها من صدفة، بالتأكيد سيساعدني فكلنا نناديه أبو الحلول بسبب الحلول العبقرية التي يُدلي بها، فكم من معلم راح ضحية خططته الجهنمية، وكم من طالب أصبح يرتعد من كيده! كمال! كمال! أحتاج الى مساعدتك!".

كمال: "السلام عليكم، كيف حالك يا أمين؟ هل ما زلت تلعب بأكوام التراب مثل الصغار؟! تعال معي عندي لعبة جديدة على الحاسوب، أريد أن أُريك اياها".

أمين: "وعليكم السلام، وفّر كلامك الى وقت آخر، فأنا في ورطة وأحتاج الى مساعدتك الفورية".

كمال: "ماذا هنالك؟ هل خاصمك أحد وتريدني أن أنتقم لك؟ أم أن ذاك المعلم الذي لا يعرف أن يخطّ اسمه قد أخجلك أمام الطلاب؟".

أمين: "يا أخي عن ماذا تتحدّث؟ اسمعني لكي تفهم ولا تكثر الكلام!".

كمال ضاحكا: "كلّي آذان صاغية، هيا يا أمين أطربنا بورطتك!".

أمين: "أمي تسئلني لماذا اليوم هو يوم عطلة، وأنا لا أعرف الإجابة".

كمال: "هل هذه هي ورطتك التي تتحدّث عنها؟ أين الورطة في الموضوع؟".

أمين: "ورطة وأي ورطة! سأخيّب ظنّ أمي ان لم أعرف".

كمال: "الحل موجود وبسيط، تعال عندي لنبحث من خلال الانترنت".

أمين: "صحيح، كيف غاب عن بالي هذا الحل العبقري؟".

كمال: "هيا بنا نذهب فأنت تحتاج الى دروس في الحلول العبقرية".

جلس أمين وكمال وراء الشاشة الصغيرة وأخذا يبحثان في محرّكات البحث عن الذكرى التي تصادف في هذا اليوم، لكنّ دون جدوى فما من اشارة واحدة تدلهم على مرادهم. لقد وجدوا ذكرى وفاة أينشتاين ونيوتن وماركس وذكرى وفاة المطربة أم كلثوم، ويوم ميلاد كل الفنانين ولاعبي الكرة، وكلهم لا يصادفون في هذا اليوم!  

كمال لم ييأس بسرعة فهو أبو الحلول، ففكّر أن يدخل الى شبكة التواصل الاجتماعي المعروفة بالـ"الفيسبوك"، وما ان دخل الى هناك حتى وجد واحد من بين مئة صديق عنده وقد كتب: "كل سنة والأمة الاسلامية بألف خير، رأس سنة هجرية مباركة وكل عام وانتم بخير". عندها صاح أمين فرحا: "لقد وجدتها! لقد وجدتها! انها ذكرى رأس السنة الهجرية!".

أمين: "الآن أتذكّر أن خطيب الجمعة قد ذكر رأس السنة الهجرية في صلاة الجمعة الأخيرة ولكني بالعادة لا أفهم كثيرا مما يقول".

كمال: "هيا بنا نلعب اذا، فورطتك قد وجدت لها حلا".

أمين: "لا، تمهّل! دعنا نبحث اكثر عن هذه الذكرى".

كمال: "حسنا! سأقرأ لك من أحد المواقع فاسمع جيدا. لقد كانت الهجرة النبوية من مكة المكرّمة الى المدينة المنوّرة حدثا تاريخيا عظيما، ولم تكن كأي حدث، وان كانت عظمة الأحداث تُقاس بعظمة ما جرى فيها والقائمين بها والمكان الذي وقعت فيه، فقد كان القائم بالحدث هو أشرف وأعظم الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أشرف مكانا وأعظم من مكة والمدينة. وقد غيّرت الهجرة مجرى التاريخ وحملت في طياتها معاني التضحية والصحبة، الصبر والنصر، والتوكّل والإخاء، وجعلها طريقا للنصر والعزّة ورفع راية الإسلام وتشييد دولة الاسلام. قال الله تعالى: "إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة، 40). انها معلومات شيّقة، لكن دعنا نفعل شيئا آخر!".

أمين: "انتظر قليلا، اني أرى رابطا لفيلم اسمه الرسالة، ما رأيك أن نشاهده؟ لربما يكون فيلما ممتعا".

كمال: "كما تريد، الفيلم أهون من قراءة كل تلك المعلومات".

وأخذا يشاهدان الفيلم باستمتاع غريب رغم طوله، ونسي أمين أنه لم يخبر أمه قبل أن يخرج من البيت، أما كمال فقد نسي اللعبة التي أراد أن يريها لأمين، وانغمس الاثنان في جو الفيلم، الى أن صارا يبكيان في لحظات الفيلم المؤثّرة، وانتهى الفيلم الذي استمر أكثر من ثلاث ساعات دون أن يشعرا، ولم يفطنا للحظة الى الأكل أو الى المرحاض، مما أحرج كمال بعض الشيء، فصديقه جلس عنده أكثر من ثلاث ساعات ولم يُقدّم له شيئا، لكنّ الاثنان اتفقا على أن مثل هذا الفيلم لا يُنسى وأن المعلومات التي أغناهما بها هي كثيرة جدا، وهي فرصة لم تسنح لهما في أي مكان آخر ليطّلعوا من مكان قريب على تاريخهم ودينهم وسيرة رسولهم.

ولما عاد أمين الى المنزل، لاقته أمه مستبشرة أن ابنها قد حل اللغز، فهو لا يُخيّب ظنّها، وما كان منه الا أن أخذ طبله الصغير وبدأ يُغنّي:

"طلع الـبدر عليـنا        مـن ثنيـات الوداع

وجب الشكـر عليـنا      مـا دعــــا لله داع

أيها المبعوث فينا       جئت بالأمر المطـاع

جئت شرفت المديـنة    مرحباً يـا خير داع

انها هجرة رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم يا أمي!"، وأخذ يحدّث أمه عن الطريقة التي حلّ بها اللغز ولم ينسَ أن يحدّثها بطبيعة الحال عن فيلم الرسالة، وكم كانت أمه فخورة به في تلك الأثناء، لتقول له:

"لم تُخيّب ظنّي يا أمين يوما واحدا، أنا فخورة أني أم لولد مثلك!".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق